فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا} قال عليّ رضي الله عنه: الهباء المنبث الرّهج الذي يسطع من حوافر الدواب ثم يذهب، فجعل الله أعمالهم كذلك.
وقال مجاهد: الهباء هو الشعاع الذي يكون في الكوّة كهيئة الغبار.
وروي نحوه عن ابن عباس.
وعنه أيضًا: هو ما تطاير من النار إذا اضطربت يطير منها شرر فإذا وقع لم يكن شيئًا.
وقاله عطية.
وقد مضى في (الفرقان) عند قوله تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} وقراءة العامة: {مُنْبَثًّا} بالثاء المثلثة أي متفرقًا من قوله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} أي فرّق ونشر.
وقرأ مسروق والنَّخَعيّ وأبو حَيْوة {مُنْبَتًّا} بالتاء المثناة أي منقطعًا من قولهم: بتّه الله أي قطعه؛ ومنه البتات.
قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاَثَةً} أي أصنافًا ثلاثة كل صنف يشاكل ما هو منه، كما يشاكل الزوج الزوجة، ثم بيّن من هم فقال: {فَأَصْحَابُ الميمنة} {وَأَصْحَابُ المشأمة} و{السابقون}. اهـ.

.قال الألوسي:

بسْم الله الرحمن الرحيم.
{إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} أي إذا حدثت القيامة على أن {وَقَعَتِ} بمعنى حدثت و{الواقعة} علم بالغلبة أو منقول للقيامة، وصرح ابن عباس بأنها من أسمائها وسميت بذلك للإيذان بتحقق وقوعها لا محالة كأنها واقعة في ونفسها مع قطع النظر عن الوقوع الواقع في حيز الشرط فليس الإسناد كما في جاءني جاء فإنه لغو لدلالة كل فعل على فاعل له غير معين، وقال الضحاك: {الواقعة} الصيحة وهي النفخة في الصور، وقيل: {الواقعة} صخرة بيت المقدس تقع يوم القيامة وليس بشيء، و{إِذَا} ظرف متضمن معنى الشرط على ما هو الظاهر، والعامل فيها عند أبي حيان الفعل بعدها فهي عنده في موضع نصب بوقعت كسائر أسماء الشرط وليست مضافة إلى الجملة، والجمهور على إضافتها فقيل: هي هنا قد سلبت الظرفية ووقعت مفعولًا به لا ذكر محذوفًا، وقيل: لم تسلب ذلك وهي منصوبة بليس، وصنيع الزمخشري يشعر باختياره.
وقيل: بمحذوف وهو الجواب أي {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} كان كيت وكيت، قال في (الكشف) هذا الوجه العربي الجزل فالنصب بإضمار اذكر إنما كثر في إذ، وبليس إنما يصح إذا جعلت لمجرد الظرفية وإلا لوجب الفاء في ليس، وأبو حيان تعقب النصب بليس بأنه لا يذهب إليه نحوي لأن ليس في النفي كـ: {مَا} وهي لا تعمل، فكذا ليس فإنه مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان، والقول: بأنها فعل على سبيل المجاز، والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث فحيث لا حدث فيها لا عمل لها فيه، ثم ذكر نحو ما ذكر (صاحب الكشف) من وجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد عن الشرطية؛ واعترض دواه أن {مَا} لا تعمل بأنهم صرحوا بجواز تعلق الظرف بها لتأويلها بانتفى وأنه يكفي له رائحة الفعل، ويقال عليها في ذلك ليس، وكذا دعوى وجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد {إِذَا} عن الشرطية بأن لزوم الفاء مع الأفعال الجامدة إنما هو في جواب إن الشرطية لعملها كما صرحوا به.
وأما {إِذَا} فدخول الفاء في جوابها على خلاف الأصل.
وسيأتي إن شاء الله تعالى فيها قولان آخران، وبعد القيل والقال الأولى كون العامل محذوفًا وهو الجواب كما سمعت.
وفي إبهامه تهويل وتفخيم لأمر الواقعة.
وقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} إما اعتراض يؤكد تحقيق الوقوع.
أو حال من الواقعة كما قال ابن عطية، و{كَاذِبَةٌ} اسم فاعل وقع صفة لموصوف محذوف أي نفس، وقيل: مقالة والأول أولى لأن وصف الشخص بالكذب أكثر من وصف الخبر به.
و {الواقعة} السقطة القوية وشاعت في وقوع الأمر العظيم وقد تخص بالحرب ولذا عبر بها هنا واللام للتوقيت مثلها في قولك: كتبته لخمس خلون أي لا يكون حين وقوعها نفس كاذبة على معنى تكذب على الله تعالى وتكذب في تكذيبه سبحانه وتعالى في خبره بها، وإيضاحه أن منكر الساعة الآن مكذب له تعالى في أنها تقع وهو كاذب في تكذيبه سبحانه لأنه خبر على خلاف الواقع وحين تقع لا يبقى كاذبًا مكذبًا، بل صادقًا مصدقًا، وقيل: على معنى ليس في وقت وقوعها نفس كاذبة في شيء من الأشياء، ولا يخفى أن صحته مبنية على القول بأنه لا يصدر من أحد كذب يوم القيامة؛ وأن قولهم: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] مجاب عنه بما هو مذكور في محله أو اللام على حقيقتها، و{كَاذِبَةٌ} صفة لذلك المحذوف أيضًا أي {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا} نفس كاذبة بمعنى لا ينكر وقوعها أحد ولا يقول للساعة لم تكوني لأن الكون قد تحقق كما يقول لها في الدنيا بلسان القول أو الفعل لأن من اغتر بزخارف الدنيا فقد كذب الساعة في وقعتها بلسان الحال لن تكوني، وهذا كما تقول لمخاطبك ليس لنا ملك ولمعروفك كاذب أي لا يكذبك أحد فيقول: إنه غير واقع، وفيه استعارة تمثيلية لأن الساعة لا تصلح مخاطبًا إلا على ذلك إما على سبيل التخييل من باب لو قيل: للشحم أين تذهب، وهو الأظهر وإما على التحقيق، وجوز كون {كَاذِبَةٌ} من قولهم كذبت نفسه وكذبته إذا منته الأماني وقربت له الأمور البعيدة وشجعته على مباشرة الخطب العظيم، واللام قيل: على حقيقتها أيضًا أي ليس لها إذا وقعت نفس تحدث صاحبها باطاقة شدتها واحتمالها وتغريه عليها.
وفي (الكشف) إن اللام على هذا الوجه للتوقيت كما على الوجه الأول، وجوز أيضًا كون {كَاذِبَةٌ} مصدرًا بمعنى التكذيب وهو التثبيط وأمر اللام ظاهر أي ليس لوقعتها ارتداد ورجعة كالحملة الصادقة من ذي سطوة قاهرة؛ وروى نحوه عن الحسن وقتادة، وذكر أن حقيقة التكذيب بهذا المعنى راجعة إلى تكذيب النفس إلى كذبها وإغرائها وتشجيعها وأنشد على ذلك لزهير:
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ** ما الليث كذب عن أقرانه صدقًا

ويجوز جعل الكاذبة بمعنى الكذب على معنى ليس للوقعة كذب بل هي وقعة صادقة لا تطاق على نحو حملة صادقة، وحملة لها صادق أو على معنى ليس هي في وقت وقوعها كذب لأنه حق لا شبهة فيه، ولعل ما ذكر أظهر مما تقدم وإن روى نحوه عمن سمعت.
نعم قيل: عليهما إن مجيء المصدر على زنة الفاعل نادر، وقوله عز وجل: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} خبر مبتدأ محذوف أي هي خافضة لأقوام رافعة لآخرين كما قال ابن عباس، وأخرجه عنه جماعة، والجملة تقرير لعظمتها وتهويل لأمرها فإن الوقائع العظام شأنها الخفض والرفع كما يشاهد في تبدل الدول وظهور الفتن من ذل الأعزة وعز الأذلة، وتقديم الخفض على الرفع لتشديد التهويل، أو بيان لما يكون يومئذ من حط الأشقياء إلى الدركات ورفع السعداء إلى درجات الجنات، وعلى هذا قول عمر رضي الله تعالى عنه: خفضت أعداء الله تعالى إلى النار ورفعت أولياءه إلى الجنة، أو بيان لما يكون من ذلك ومن إزالة الأجرام عن مقارها ونثر الكواكب وتسيير الجبال في الجو كالسحاب، والضحاك بعد أن فسر الواقعة بالصيحة قال: خافضة تخفض قوتها لتسمع الأدنى {رَّافِعَةٌ} ترفعها لتسمع الأقصى، وروى ذلك أيضًا عن ابن عباس وعكرمة، وقدر أبو علي المبتدأ مقرونًا بالفاء أي فهي {خَافِضَةٌ} وجعل الجملة جواب إذا فكأنه قيل: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} خفضت قومًا ورفعت آخرين.
وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني واليزيدي في اختياره {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} بنصبهما، ووجه أن يجعلا حالين عن الواقعة على أن {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] اعتراض أو حالين عن وقعتها، وقوله سبحانه: {إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجًّا} أي زلزلت وحركت تحريكًا شديدًا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل متعلق بخافضة أو برافعة على أنه من باب الأعمال، أو بدل من {إِذَا وَقَعَتِ} [الواقعة: 1] كما قال به غير واحد.
وقال ابن جني وأبو الفضل الرازي: {إِذَا رُجَّتِ} في موضع رفع على أنه خبر للمبتدأ الذي هو {إِذَا وَقَعَتِ} وليست واحدة منهما شرطية بل هي بمعنى وقت أي وقت وقوعها وقت رج الأرض، وادعى ابن مالك أن {إِذَا} تكون مبتدأ، واستدل بهذه الآية، وقال أبو حيان: هو بدل من {إِذَا وَقَعَتِ} وجواب الشرط عندي ملفوظ به وهو قوله تعالى: {فأصحاب الميمنة} [الواقعة: 8] والمعنى إذا كان كذا وكذا، فأصحاب الميمنة ما أسعدهم وما أعظم ما يجازون به أي إن سعادتهم وعظم رتبهم عند الله عز وجل تظهر في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم، وفيه بعد.
{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)}.
أي فتت كما قال ابن عباس ومجاهد حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لتّه، وقيل؛ سيقت وسيرت من أماكنها من بس الغنم إذا ساقها فهو كقوله تعالى: {وَسُيّرَتِ الجبال} [النبأ: 20].
وقرأ زيد بن علي {رُجَّتِ وَبُسَّتِ} بالبناء للفاعل أي ارتجت وتفتتت، وفي كلام هند بنت الخس تصف ناقة بما يستدل به على حملها عينها هاج وصلاها راج، وهي تمشي وتفاج.
{فَكَانَتْ} فصارت بسبب ذلك {هَبَاء} غبارًا {مُّنبَثًّا} متفرقًا، والمراد مطلق الغبار عند الأكثرين، وقال ابن عباس: هو ما يثور مع شاع الشمس إذا دخلت من كوة، وفي رواية أخرى عنه أنه الذي يطير من النار إذا اضطرمت.
وقرأ النخعي منبتًا بالتاء المنطوقة بنقطتين من فوق من البت بمعنى القطع، والمراد به ما ذكر من البث بالمثلثة.
{وَكُنتُمْ} خطاب للأمة الحاضرة والأمم السالفة تغليبًا كما ذهب إليه الكثير، وقال بعضهم: خطاب للأمة الحاضرة فقط، والظاهر إن كان أيضًا بمعنى صار أي وصرتم {أزواجا} أي أصنافًا {ثلاثة} وكل صنف يكون مع صنف آخر في الوجود أو في الذكر فهو زوج، قال الراغب: الزوج يكون لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة ولكل قرينين فيها، وفي غيرها كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر مماثلًا له أو مضادًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)}.
افتتاح السورة بالظرف المتضمننِ الشرط، افتتاح بديع لأنه يسترعي الألباب لترقب ما بعد هذا الشرط الزماني مع ما في الاسم المسند إليه من التهويل بتوقع حدث عظيم يحدث.
و {إذا} ظرف زمان وهو متعلق بالكون المقدر في قوله: {في جنات النعيم} [الواقعة: 12] إلخ وقوله: {في سدر مخضود} [الواقعة: 28] إلخ وقوله: {في سموم وحميم} [الواقعة: 42] إلخ.
وضمّن {إذا} معنى الشرط.
وجملة {ليس لوقعتها كاذبة} استئناف بياني ناشىء عن قوله: {إذا وقعت الواقعة} إلخ وهو اعتراض بين جملى {إذا وقعت الواقعة} وبين جملة {فأصحاب الميمنة} [الواقعة: 8] إلخ.
والجواب قوله: {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة} [الواقعة: 8، 9]، فيفد جوابًا للشرط ويفيد تفصيل جملة {وكنتم أزواجًا ثلاثة} [الواقعة: 7]، وتكون الفاء مستعملة في معنيين: ربطِ الجواب، والتفريع، وتكون جملة {ليس لوقعتها كاذبة} وما بعده اعتراضًا.
والواقعة أصلها: الحادثة التي وقعت، أي حصلت، يقال: وقع أمر، أي حصل كما يقال: صِدْق الخبرِ مطابقتُه للواقع، أي كون المعنى المفهوم منه موافقًا لمسمى ذلك المعنى في الوجود الحاصل أو المتوقع على حسب ذلك المعنى، ومن ذلك حادثة الحرب يقال: واقعة ذي قار، وواقعة القادسية.